موقع مقالة نت
اهم المقالات التي تهم القارئ العربي

إسماعيل فهد إسماعيل، صوت الرواية في الخليج العربي

0 12

أثير – الروائي العربي واسيني الأعرج

لا يمكن رؤية تجرية الروائي العربي الكويتي الكبير إسماعيل فهد إسماعيل، خارج رحلة الرواية العربية التي وسمها بجهوده وإسهاماته الفنية الكبيرة والكثيرة أيضا. فهو ليس شخصية عابرة في الرواية العربية ولكنه علامة من علامتها الأساسية التي لا يمكن التأريخ لمنجزها الإنساني، دون استحضاره. فقد فتح النص الروائي العربي على آفاق إنسانية جديدة، بل فعل ما لم يفعله كبار الروائيين الذين سقطوا في النظرة المانيكية الازدواجية التي يتجابها الخير والشر. الخيّر خيّر والشرّير شري. فقد فتح إسماعيل شخصيته على الأفق الإنساني وجعل منها إمكانية أكثر منها حقيقة مطلقة.

أي إنسان يتحرك داخل مساحة تصنعه ويصنعها، لكن ذلك لا يتم بسطحية، يتأسس من خلال اللحظات الروائية الأكثر سعادة وقسوة، فنجد في المناضل والمقاوم قسطه من الانتهازية والعكس صحيح، إذ لا يوجد الإنسان خارج التجربة التي تصهره. وإسماعيل بهذا يضرب فكرة الإنسان الكامل التي بشر بها عبثا نيتشه، وبدل أن تنتج فكرته هذه، الجميلة في مثاليتها إنسانا كاملا بالمعنى الحضاري والمعرفي والثقافي، صنعت نازية غير مسبوقة في جرائمها، وأسست لعقلية السوبرمان المتحكم في كل شيء، والمنقذ له من الشريرين، صنعت ورامبو الذي ينتصر على أعداء بلاده في فترة الحرب الباردة.

كمال ونموذجية أبطال إسماعيل في مقاومتهم للشرور، استمرار تحسين أوضاعهم للوصول إلى نقطة اللارجوع والدفاع عن الحق الإنساني. من هنا فقد كان الإنسان هو محور وجوهر الفعل الروائي. وهو ما انتبهت له الرواية العربية متأخرة.

يندرج جهد إسماعيل في رحم رحلة المائة سنة من الكتابة التي قطعتها الرواية العربية. وهي تستحق منا اليوم أن نهتم بها من أجل أن نضعها في سقف الاستمرار والخلود والتجاذب مع الرواية العالمية، بعد أن تجاوزت المعضلات الأولى التي تصحب عادة نشوء الأجناس، أو التأسيسات الأولى من ضعف بنيوي وتركيبي من الناحية التقنية، كاختلاط الأجناس، لأن الحدود والفواصل غير واضحة وتتداخل أحيانا فنجد الشعر يصحب الخطابة والسرد في علبة موحدة اسمها الرواية، البحث المستمر عن اللغة الروائية، الثرثرة التي لا تعني الشيء الكثير من ناحية البنية السردية التي تتطلب منطقا وعقلا واضحين، الدرس الأخلاقي والمجتمعي الذي يفترض أن لا تعيد الرواية إنتاجه بأدواته ولكن بوسائلها الفنية الخاصة. وقد كان إسماعيل واحدا من الروائيين العرب الذين سحبوا الرواية من نهجها البدئي وذهبوا بها بعيدا نحو التجريبية التي كانت وسيلة من وسائل التخطي. وفتح أمامها مساحة حية وكبيرة في سياق الملحمة الروائية العربية. لم يكن يغرد لوحده في هذه المساحات الجديدة ولكنه كان صوتا متفردا لا يكتفي بالكتابة كمهنة ولكن أيضا كإحساس إنساني شديد العمق.

هذه الجهود العظيمة التي صنعت هذه الملحمة تحتاج اليوم إلى اهتمام كبير كي لا تنسى، وكي يظل أبطالها الفاعلون، ومنهم إسماعيل فهد إسماعيل، أحياء دوما. لابد من موسوعة روائية ذات نفس عالمي تعريفي، عالية القيمة، تشتمل على أهم المنجزات العربية التي تركت صدى محليا وعالميا، شبيهة بموسوعة لابلياد la Pléiade الفرنسية، التي جمعت بين مجلداتها ما أنتجته، وتنتجه العبقرية العالمية التي لا تتوقف عن تكوين منجزها وتجديده وإدهاش قارئها.

تظهر فيها اللحظات الفاصلة التي حكمت الرواية العربية وحددت مفاصلها التاريخية والجمالية، والتي كان فيها إسماعيل بمنجزه الكبير والمميز، أحد أقطابها. هذا الاهتمام الضروري، يمكن أن يشكل الذاكرة الجمعية العربية الحافظة لميراث أمة من الأمم في زمن المحو المستمر، بحيث أنه مهدد اليوم بالفناء والموت إذا سار الوضع الحالي على نفس الوتيرة. وقد لمست أعمال إسماعيل في العشرين سنة الأخيرة هذه الجراحات العربية المتكررة والعميقة. لهذا يصبح هذا الجمع للجهود الروائية العربية في شكل موسوعة حية، الهدف من ورائها الحفاظ على الرابط الثقافي بين الأجيال وبين الثقافات العربية التي تخترقها العلائق التناصية المترتبة عن الاستعمارات المختلفة أو حتى بدون ذلك، أي كنصوص حرة بحكم التعدد الثقافي الإنساني، لأن العالم العربي ليس خارج التجاذبات العالمية من حيث التأثير الثقافي. وهو ما تولدت عنه الكثير من الأجناس على رأسها الرواية. نستطيع طبعا، ضمن هذه الموسوعة، أن نتحدث في المقدمات التمهيدية عن الأشكال الأولى التي هيأت سرديا للميراث الإنساني وليس العربي فقط. الذي يمكن أن نسميه المرحلة البدئية في ظل القطيعة مع ألف ليلة وليلة، رحلة ابن جبير، رسالة الغفران، حي بن يقظان، السيرة الهلالية. التي لم يكن ينقصها الكثير لتصبح نصوصا متكاملة وكبيرة، والتي استعاد بعضها إسماعيل وأدخلها في منظومة الرواية الحديثة.

هناك للأسف قطيعة فرضتها النهضة المبتورة قتلتها، بل أنست أجيالا كاملة الذاكرة الجمعية. صحيح أنها ليست روايات بالمعنى الأوروبي، ولا حتى بالمعنى العربي المتوارث، لكنها أشكالا سردية محايثة وقوية، تنتظم فيها الحكاية بشكل دقيق وواضح. تستحق الرواية العربية في سقف تطورها الحالي، هذه الموسوعة الكبيرة والاستثنائية التي تعيد لها قيمتها كجنس كبير وتفتح أمامها أبوابا كبيرة للتطور ليس فقط بوصفها أهم الأجناس الأدبية اليوم، ولكن الجنس الذي استطاع عالميا وعربيا تتبع لحظات ارتقاء وانحدار الوجدان العربي بتوصيفه ثقافيا وحضاريا واجتماعيا وإنسانيا، من خلال نماذجه الأدبية العالية التي اخترقت المحلية وضاهت العالمية. يمكن تقسيم هذا المتن الكبير اللاحق للميراث الأول، إلى مجموعة حقب حية.

الحقبة التأسيسية، ويمكن أن تنضوي تحتها رواية زينب فواز: حسن العواقب، التي فتحت السبل المغلقة عربيا على نموذجية سردية جديدة، ورواية زينب لمحمد حسين هيكل، والأيام لطه حسين، وسارة للعقاد، تلحق جزئية مهمة كثيرا ما أهملت تتعلق بالجهد الرومانسي الذي تبلورت فيه اللغة الأدبية بشكل عميق، بعد أن بينت الأبحاث اللسانية أن حصر اللغة في فعل القداسة يقتلها ويمنعها من الحياة. روايات صغيرة كروايات جبران ومي زيادة ويمكن أن تضاف لها الروايات التاريخية لجورجي زيدان بوصفها تأسيسا أخرج الخطاب السردي من دائرة الانغلاق، يجب أن تجد مكانها في موسوعة شاملة والخروج من دائرة التقسيمات السياسية القديمة. وهذه الحقب عبارة عن ممارسات قبلية تظهر فيها التأثيرات العالمية وفعل المثاقفة.

ثم حقبة الترسيخ التي أصبح فيها الجنس الروائي العربي حقيقة موضوعية. ويمثلها بامتياز نجيب محفوظ، وكل الجيل الذي سار في أثره وفي أثر القطيعات السردية التي أحدثها في سرده الجديد، وحنا مينة، خريف، والطيب صالح، ووطار، ابن هدوقة، زهور ونيسي، محمود المسعدي، صنع الله إبراهيم، ليلى العثمان، خناثة بنونة. جمال الغيطاني، عبدالرحمن الربيعي. عبدالرحمن منيف. نبيل سليمان، إبراهيم الكوني، وأسماء أخرى. ويشكل إسماعيل فهد إسماعيل في هذه المجموعة، صوتا متفردا ونموذجيا لا يشبه إلا لنفسه. فقد رفض أن يسير على النسق الحكائي السهل والمعتاد، وذهب نحو مسارات روائية غير مرئية في وقتها ولكنها استطاعت أن تخلق جيلا بكامله، اختار أن يتعامل مع الحكاية بشكل جديد بعيدا عن الخطية المستهلكة، وبلغة أخرى حادة ومبطنة شعريا، كلما اقتربنا من تأويلها تحولت اللغة المعتادة إلى قشور وما بداخلها إلى محار يتمركز فيه المعنى الكبير.

أشبه إسماعيل في هذا الانزياح والاختراق تحديدا، بمارسيل بروست، في البحث عن الزمن الضائع، في غناه الروائي ولكن في جرأته على الخروج من دائرة السهل والمستهلك. فقد تخلى إسماعيل نهائيا عن يقينيات الأجيال السابقة في ظل حياة عربية لم تعد تضمن فسحات كبيرة ومقروئية شروطها تكثر وحاجاتها الجديدة تترسخ. فقد صاحب الخيبات الكبرى، فسجلها بحثا عن مجتمع آخر أكثر إنسانية وديمقراطية وجمالا. تجاوز الدكتاتوريات التي خاضت ضدها الأجيال السابقة حربا ضروسا بدون التمكن من إسقاطها. واعتمد البحث في المشكلات الكبرى التي تخترق المجتمعات العربية بقوة. مثل مشكلات الهويات، الحروب، الحب، الأحقاد، الخير والشر، المسخ الإرهابي، النظام والتطرف الديني، وكل الثنائيات التي تصنع الذاكرة الإنسانية أمام تاريخها العميق.

وهذا كله يجعل من إسماعيل فهد إسماعيل لا يشبه إلا نفسه. العمر الذي عاشه سمح له باختراق مراحل وحقب كثيرة لم تكن دوما جميلة، بل كثيرا ما كانت جراحات قاسية مزقت الكاتب من داخله ولم تمنحه إلا سلاحا واحدا ووحيدا، هو الرواية.

كالكثيرين من أبناء جيلي، اكتشفت إسماعيل متأخرا، ولكن منذ تلك اللحظة تكونت معه صحبة غريبة، إذ لأول مرة أحصل على الشبيه العربي الكبير، لمارسيل بروست، الذي كنت معجبا به في وقت مبكر. كنت أعمل في جريدة الجمهورية بشكل يكاد يكون يوميا، محاولا التوفيق بين دراستي في جامعة ألسانيا بوهران، وحلمي الصحفي الذي تشبثت به منذ أن أعطيت لي الفرصة. كنت عندما أجد فسحة في الجريدة، بعد ترجمة مقالات الزملاء الفرانكفونيين، أستغل بعض الوقت للقراءة أو الكتابة. وكعادتي لا يمكنني إلا أن أزور مكتبة المدينة الواقعة في وسط أهم شارع العربي بن مهيدي أو شارع أروز كان يشتغل بها رجل طيب، عمي العاصمي، هكذا كنا نناديه. مثقف ومحب للكتب وكلما جاءه جديد نبهني إليه. وكثيرا ما كان يحجزه لي على الرغم من حداثة سني، أقل من عشرين سنة. فوق هذا، هو أحد أحفاد الولي الصالح، الحامي (في المعتقد الشعبي) لقريتي: سيدي بوجنان.

كانت المكتبة مؤثثة بالكتب المفيدة. كنت قد فكرت في كتابة شيء في بحثي الأساسي في الليسانس، عن جورجي زيدان والتاريخ. كنت دائما أسمع من أستاذ الأدب الحديث أن جورجي زيدان شوه التاريخ الإسلامي وهو ما لم أكن متفقا معه فيه، على الرغم من السند الثقافي الكافي. فقد قرأته كاملا بمتعة. لم أشعر في أي لحظة من اللحظات، بأي نفور. عندما عبرت عتبة المكتبة، صبّحت على عمي العاصمي وسألته عن جديد المكتبة. قال بلا تردد: كنت أفكر فيك وأنا أقرأ كاتبا اسمه إسماعيل فهد إسماعيل، يبدو لي أنه عراقي، أعجبني كثيرا. ليس سطحيا. يتوغل في أعماق شخصياته بقوة تجعلنا مقتنع بها. ويكتب بلغة لم أر شبيها لها في الروايات العربية التي يستهلكها عادة الوصف واللغة الساردة التي لا تحتوي على أية خصوصية داخلية، ثم أطلعني على كنوزه التي حدثني عنها، في عمق المكتبة.

لم أكن أعرف شيئا عن الكاتب الذي ذكره لي عمي العاصمي الذي نبهني إلى سلسلة روايات إسماعيل فهد إسماعيل، الصادرة وقتها عن دار العودة إذا لم تخني الذاكرة. ورغم إمكاناتي المادية المتواضعة، فقد أخذتها كلها بلا تردد:

1- البقعة الداكنة- قصص- بيروت 1965.
2- كانت السماء زرقاء – رواية- بيروت 1970.
3- المستنقعات الضوئية- رواية- بيروت 1971.
4- الحبل -رواية- بيروت 1972.
5- الضفاف الأخرى -رواية- بيروت 1973.
6- ملف الحادث 67 -رواية- بيروت 1974.
7- الأقفاص واللغة المشتركة – قصص – بيروت 1974.
الروايات والمجموعات القصصية التي كانت قد صدرت وقتها. قبل أن أقرأه لاحقا بشكل كامل.

ذهبت إلى جريدة الجمهورية، مكان عملي، بدأت أورق الكتب. لفتت انتباهي روايته الأولى كانت السماء زرقاء، بشكل خاص لا أدري لماذا؟ على الرغم من أنها كانت كلها قصيرة نسبيا. كانت بدايتها ممتعة. لغتها مدهشة. من هذه الناحية كان إسماعيل مايسترو، للأسف تخلى عن هذه اللغة لاحقا. شيء ما في رواية كانت السماء زرقاء أخذ بمجامعي وأسرني كليا. غير كنت قد قرأت قبلها بفترة وجيزة رواية ما تبقى لكم لغسان كنفاني. فشعرت كأن هناك شيئا مشتركا بينهما في الشعرية العميقة والتركيز، والاقتصاد اللغوي، والحدث السياسي الذي لا يخاف أبدا. وعندما بدأت أدخل في النص جاء من يسرق مني متعة الاندماج في النص. رئيس التحرير. قال بحب وخجل، وتلك عادته مع الجميع: واسيني هناك فنانان برازيليان جاءا إلى الجزائر أريدك أن تغطي الحدث. ليس بعيدا عن مقر الجريدة. أبعث معك المصور. هو رهن إشارتك. اكتب لنا شيئا عنهما. جاءا عن طريق سفارتهما التي اتصلت بالجريدة. يعرضان في مركز الفنون بالمدينة. حزنت لأني أديت واجب الترجمة وكان يفترض أن اكون حرا متفرغا بالخصوص بعدما اندمجت مع رواية إسماعيل الأولى. انصعت للأوامر. كان اللقاء معهما جميلا. واستفدت من تقنيتيهما بشكل جميل. وطلبت من المصور أن يأخذ بورتري لكل واحد منهما لنشرهما في الجريدة. ثم أن يركز على بعض اللوحات التي استجابت للملاحظات التي سألت عنها الرسامين التشكيليين.
وكتبت مقالتي الصغيرة في مقهى- بار دافئ مقابل للجريدة، بينما كان المصور قد ذهب لتحميض الصور في الجريدة.

أنهيت المقالة. ثم وركضت نحو الجمهورية. كان القسم الثقافي قد فرغ تقريبا من الحركة. سلمت المقالة لرئيس التحرير وانسحبت كمن له موعد مع حبيبة لا يريد أن يخطئه. فرحة داخلية لا تقاوَم. ركضت نحو ساحة الحرية في وهران.، وركبت باصات الخط ٧ باتجاه حي اللوز. حيث الحي الجامعي العائلي الذي كنت أقيم فيه. دخلت إلى غرفتي محملا بأعمال إسماعيل فهد إسماعيل. صيدي الثمين من مكتبة المدينة. وانهمكت من جديد في قراءة كانت السماء زرقاء. أقرأ وأعض على شفتي السفلى كيف لم أعرف من قبل كاتبا بهذه العظمة والقوة؟ تكونت لدي قناعة إني أخيرا عثرت على كاتبي. كل ما وصفه في كانت السماء زرقاء، في الرحلة القاسية عبر البراري الخالية والوديان والسبخات النتنة والمياه الآسنه، في لحظة الهروب، كان قويا. قضيت الليلة كلها سهرانا مع الرواية. أعتقد حتى الخامسة فجرا. لم أنم إلا ساعة واحدة قبل أن أركض نحو باص الحي الجامعي باتجاه جامعة السينيا. كانت عيناي متعبتين ومتورمتين من قلة النوم، لكني كنت أشعر بلذة غير مسبوقة.

كيف حدث ذلك؟ ما السر؟ أول نص أقرأه لإسماعيل. كان كل شيء منظما بشكل دقيق مثل الپوزل، وفي مكانه الطبيعي. أكاد أتذكر هذه الحركة وهذا الركض لدرجة اللهاث وراء الكاتب وأبطاله الهاربين: “أحس بالأشواق تأخذ بثيابه “أركض” لا زالت تدوي في أذنيه، هو يركض، حياته كلها سلسلة من الركض المتواصل، هو هارب، هارب من كل شيء، حتى من نفسه. قبل ساعات حاول عبور الحدود بمعية أكثر من عشرين شخصاً. كانت الساعة تقارب الثانية بعد منتصف الليل عندما وقعت الحادثة.

النوتي قال: سأعبر بكم شط العرب قبل الفجر بقليل. سآخذ النقود مقدماً. أنزلكم وراء مصافي النفط…”على الرغم من أن الرواية مبنية على إيقاع واحد، الركض، فلا ملل أبدا. تكاد تكون قصة مكثفة في أسلوبها وأحداثها. لكن الذي منحها اتساعا أكبر هو كونها مبنية على رحلتين يخوضهما البطل مرغما بحثا عن الحياة ودرءا للموت البليد. لا خيار له إلا خوضهما إن هو أراد لحياته مستقبلا آخر. ويشكل الهروب فيها، ليس فقط منجاة للكاتب ولكن ثيمة حقيقية تنبني عليها سرعة اللغة وعدم ميلها للتفاصيل الزائدة والمترادفات التي تثقل النص السريع في حركيته. وفي الهروب تصل المعاناة إلى سقفها لدرجة تنتابنا الرغبة في إيقاف الروائي عن تعذيب أبطاله. هذا ما شعرت به وأنا أقرأ يومها الرواية بلا توقف. وكأن أي توقف كان سيؤدي بي إلى الهلاك. تظهر بوضوح، في الرواية، قدرة إسماعيل على اللعب بتيار الوعي كما يشاء.

نحن باستمرار نعيش لحظة الهروب وقسوتها ووديانها ومجاريها والارتحال ليلا، ونعيش في اللحظة نفسها داخل البطل السري، الهارب من موت أكيد باتجاه مبهم افترض النجاة فيه. هذه الخلفية الداخلية تضيء لنا المصائر السابقة والأحلام الممكنة لبطل الرواية. لم أتخلص من تلك الرواية طوال حياتي. وعلى من أني قرأت إسماعيل في كليته الروائية، فقد ظلت: كانت السماء زرقاء هي طريقي الدائم نحو إسماعيل. فقد جعلني سلطانها ألغي بحث تخرجي عن جورجي زيدان وأعوضه بأليات السرد في رواية كانت السماء زرقاء. لهذا قلت لإسماعيل أول ما التقيت به في الكويت، في منتداه الأسبوعي: حبيبي إسماعيل لك الكثير من الحق والفضل، في شهادة الليسانس التي تحصلت عليها بفضل بحث قمت به عن كانت السماء زرقاء.

استمرت هذه الرواية زمنا طويلا في ذاكرتي الروائية أيضا. عندما كتبت روايتي الأولى بالمعنى الأدبي والفني في نهايات السبعينيات: الوقائع (وقائع من أوجاع رجل غامر صوب البحر) كانت رواية إسماعيل حاضرة فيها بعمق، والتناص معها قويا. لم أدرك هذا إلا لاحقا. فقد اخترت تيمة الهروب. هروب سجينين من السجن المركزي في المدينة. وكل المدينة تتم في هذه المدارات. ومن خلال لحظة الهرب التي استوعبت حوالي الأربعمائة صفحة كانت روح إسماعيل الأدبية حاضرة ومعها فيلم اسمه الهروب كنت قد رأيته وقتها. لا يمكن للكاتب أن يتنصل من الأشياء الجميلة وكما يقول جيرار جينيت: البشرية في النهاية لا تكتب إلا نصا واحدا. ونقضي العمر الكتابي كله في محو ما يشبه الكتاب الآخرين الذين شكلوا لنا ذاكرة تقنية وموضوعاتية، ولكن في الوقت نفسه ننشئ ما يشبهنا ليكون الإبداع لنا، ويعبر عن جهدنا الخلاق الذي يرفض أن يكون ظلا مقلدا لما مر عليه من كتب دخلت عميقا في نسيجه اللغوي والفكري والسردي.

لهذا أقول دائما، ليس تواضعا ولكن حقيقة، أدين لإسماعيل فهد إسماعيل فيما أنا عليه اليوم إبداعيا، ولو جزئيا. قلتها له في حياته في لقاء عام في الكويت لدرجة أن قال: خجّلتني يا رجل. وأقولها اليوم وقد أصبح روحا حية انتقلت نحو الديمومة باندماجها بأرواحنا أبدا. لقد كان تواضعه كبيرا، يعبره خجل كبير، خجل العظماء الذي لا يمكن إخفاءه بسهولة. خجل يشبه النبل في كل صفاته. لهذا كنت كلما رأيته تذكرت كيف عرفني بالجيل الشاب الذي يصنع اليوم الرواية العربية ويعطيها بعدا عربيا كبيرا لم يكن متوفرا لها. وراء كل كاتب شاب كويتي، يتخفى في قلبه أو في معطفه غوغول الكويت: إسماعيل فهد إسماعيل. وهذا لا يمكن أن يحصل إلا من نفس مشبعة بالخير والمحبة والإيثار.

كم كان غيابه مؤلما في زيارتي الأخيرة للكويت (أكتوبر ٢٠١٨) كلما ذهبنا نحو بلد ركضنا نحو من نحبهم ومن يعنون لنا الشيء الكثير. كان دائما في الصفوف الأمامية. أراه بحركاته الخجولة. كان من الصعب علي أن أرى الكويت دون اللقاء بإسماعيل في مكتبه ومكان عمله، أو في بيته الجميل الذي يشبه متحفا بفيض مقتنياته ولوحاته. عزائي الكبير أني رأيت جزءا من أهله القريبين إلى قلبه، الجيل الذي ظل إسماعيل يراهن عليه بكل قواه.

مجموعة من الشباب الأوفياء لمعلمهم الأول الذي لم يدخر أي جهد لمساعدتهم والدفع بهم إلى الامام في ساحة أدبية حية لا تقبل بأنصاف المواهب. ورثهم الحب والخير والتواضع وجدية الإبداع والإصرار على الحق والحق دوما.
طوبى لتلك الروح السخية التي لم يأخذ منها الموت إلا خارجها، وفشل في أن يسرق داخلها لأنه منحها لنا بسخاء العاشق الكبير: كتبه. رواياته ومجموعاته وتأملاته النقدية.

اضف تعليق